شارع المكرونة



شارع المكرونة 


عندما قدمت إلى جدة  (وجدة غير ) نزلتُ في مبنى مطل على شارع يُسمى بشارع 

المكرونة ومنذ زمن بعيد وأنا أسال نفسي:- شارع المكرونة ؟؟!!




 


هذا الشارع  يشقُ طريقه من شمال جدة  مُلقياً بحمله  على شارع   فلسطين جنوبا 

  يمتد طوله ما يقارب العشرة كيلو مترات

عند التقائه بطريق صاري ميدان دائريُّ  يتوسطه شكلٌ 

هندسي إبداعي جميل 

ترى ذلك الفرجار مفرقاً بين قدميه  شامخا كفارس قائد من 

العصور الوسطى على صدره وسام الشجاعة متصدراً مقدمةَ

 كتيبة عسكرية  وفوق  راسه حلقة  دائرية كالخوذة  وبين 

ذراعيه مثلث ضخم ، يقابل منقلة عظيمة كالقوس أو كقبة 

انشطرت إلى نصفين .. وبين المثلث الضخم والقوس المرقم 

تمتد مسطرةٌ طويلة مستقيمة  تستند على قاعدة المثلث

 وكأنه وسادة لينة.

مكتوب على امتدادها آية من ذكر  الحكيم العليم

(علم الإنسان مالم يعلم)

تحيط بالمجسم  الجميل أشجار مزهرة تتوسطها هناك نخلة 

مائلة كأنها تعانق الفرجار …

وقفتُ أمام هذا المجسم الجميل ملقياً تحيةً لأمانة جدة 

و للمهندس الذي صممه . 




 بعدها انطلقت مع خيالي شارداً، متخيلاً شارعاً ملتوياً به 

إنحناءاتُ  الباستا ، أو أنَّ هناك شكلا هندسيًا 

آخر في ميدانٍ 

دائري على امتداد الطريق يوحي بشكل 

من الأشكال  إلى  

المكرونة، تصورَتُ مجسماً كبيرا مجعداً 

و متشابكًا كتشابك 

الفوتشيني يتربعُ في وسط  الميدان   

كتَربُعِ الدراجة العملاقة في ميدانها ، 

ثم سرح خيالي إلى أبعد من ذلك ، فَتَخيَّلَ 

مطعماً إيطالياً فاخراً يستوحي 

 تصميمه من البانثيون

 

في روما ، وله نوافذ زجاجية كبيرة 

ذات إطلالة ساحرة ، 

تتوزع على سقفه المرتفعِ قباب مصغرة

 تتدلى منها نجفاتٌ أثرية

  , تتزين جدرانه بلوحات من وَحْيِ دافنشي 

و ميكيلانجيلو بوناروتي، ورائحة البيتزا

 المرصعة بشامات من الزيتون الأسود

، تصافح أوصالًا من قطع الدجاج المبعثرة 

على وجه 

البيتزا المُحْمرَّةِ الخجولة والمغرية بنفخ أطرافها، 

وطبق الفوتشيني المصبوغ في خصره 

بصوص الطماطم 

كوحمة على خد طفل يبتسم ببراءة .


 كل ذلك الخيال والسرحان، أيقظه في الجهة 

المقابلة لسكني 

تراصف محلات صغيرة،  وبنايات تتصببُ عَرَقاً

 ملطخاً بالغبار ، 

 وكاميرا ساهر في منتصف الشارع ونمشٌ 

أسود تحت عينها، واقفة كمالك الحزين ، 




ورصيف طويل غير مرصوف ، وطيور تلتقط الحبوب 

المتناثرة في التراب بين الشارعين،


ومحلات صغيرة متراصفة

 لبيع الخردوات.

وأما امتداده فهناك مجمعات الأسواق والمجمعات التعلمية .

ومطاعم منوعة ، ومقاهي هادئة ،

 حاله كحال الشوارع الأخرى .

ذرعتُ الشارع من رأسه شمالاً 

إلى أخمص قدميه جنوبا

 فلم أجد شيئا مما تخيله خيالي الشارد ، 

إلا أسامي شوارع جميلة تصافح  المكرونة

  كشارع الشاعر الأديب اللواء يحي المعلمي شمالاً 

وشارع الزمرد ! وشارع الماس وشارع العفاف جنوباً

مما زاد تصميمي لمعرفة سبب التسمية

 فبحثت وبحثتُ  -إنها (المكرونة) - 

وهي أنَّ مصنعا للمكرونة كان هنا في هذا الشارع

 وسُمي الشارع بإسمه

المصنعُ ما هو إلا أنقاضُ ركام نمت عليها أشجار 

تتمسكُ بالحياة و لم يبقَ منه إلاجدارهُ، 

جدارٌ شاحب  هزيلٌ عاري ،

 تقاصرت قامته عن كتفيه ،

 ويحملُ عليهما لوحةً صفراء.

.كأسنان غطاها الجير 

و نخرها سوس الزمن والهجران

 فأصبحتْ  متهالكة متساقطة.. 

 


 تلاشت صروح خيالي على أطلال  المصنع  

نبهني منبه سيارة مسرعة فانتبهتُ (إنني في شارع المكرونة )


د/جعفر الشنقيطي 

حي الربوة /شارع المكرونة 

٠١/٠٨/٢٠٢١

٢٣/١٢/١٤٤٢

9 تعليقات

  1. مبدع يادكتور اسم الله عليك ربي يحفظك ويرعاك آستمر لايوقف ابد 💫👍🏻💛🙏🏻

    ردحذف
  2. تبارك الله لا قوة إلا بالله، خيال هادئ قريب بعيد، دون إغفالٍ ولا إملال، استمالتني المرجعية الإنسانية في الاستعارات: شامات الخد، وحمات الوجه، جير الأسنان وسوسها، إحلال ما يشبه الحياة في نخلة الميدان، بل وإغراؤها ببكاء أطلال ماضيها، كل ذلك ربط إحساسي تحت ساقها فلم يبرح، برغم وقوفي على رسوم المصنع، وانتباهي فَزِعًا على صوت منبه السيارة الذي أقلق خيال القارئ لدي؛ إذ قرأتُ في تلك النخلة عين الكتاب الذي جفت صحفه بحال جميعنا.

    دمت بعافية يا دكتور، ودام قلمك يحيي فينا ما أماتته ديناميكية الحياة المادية.

    ردحذف
  3. ماشاء الله إبداع الوصف... فعلا دام قلمك يحيى فينا جمال الكلمة

    ردحذف
  4. ماشاءالله تبارك الرحمن
    وصف ول في الخيال
    استمر يادكتورنا الغالي

    ردحذف
  5. إبداع الكلمه مع فكر الكاتب دكتور أدب يادكتور بكل خيالك الواسع الممتد على طول الزمن وذكريات جده غير

    ردحذف
  6. عشتُ أجواءًا لطيفة في هذا المقال؛ ربما يعود ذلك إلى حُبي لجدة. وقد أهديتنا من خلال حفرياتك في هذا المقال إلى أصل التسمية. فالشارع وعلى الرغم من اختفاء المصنع مازال يحمل الاسم. الابداع يكمن في الربط بين ألمع نجوم النهضة الأوروبية أنجيلو وأعماله الفنية الخالدة وصورته الرومنسية بخيالك وشارع المعكرونة الذي يفقده فن التصميم. والابداع ايضا يكمن بسردك الممتع لثقافة المطبخ الايطالي. أتمنى منك امتاعنا بمقال آخر يحمل الطابع الجمالي بعذوبة وأنوثة اللهجة الجداوية ويقولون: جدة غير إبداع يا دكتور. واختم: أحتاج لكتابة مقال بأكمله عن جماليات نصك وبنيته الهائلة وحفرياته ونقدياته. كامل الود

    ردحذف
  7. كل الشكر والإمتنان لتعليقاتكم الجميلة وحروفكم الأجمل ..شكرا drjafr على جمالياتك ونقوشك
    وقود انت لمزيد من المقالات
    جعفر ..

    ردحذف
  8. د أسامة ال تركي8 أكتوبر 2022 في 8:02 م

    رجعت بنا الي الزمان الجميل ذلك الزمان الذهبي الذي لن معوضة لا بناسه ولا بطباعة الطيبة المتحابه والمتصالحه مع نفسها قبل مع الآخرين افتقدنا ذلك الزمن وانت رجعتنا الي تلك الذكريات الغالية على قلوبنا ، أبدعت دكتورنا الغالي . د أسامة ال تركي

    ردحذف
  9. سلمت يداك

    ردحذف

إرسال تعليق