خرجت خليتان من منشئهما الأول (نخاع العظم ) حيث تكونتا ونمَتا حتى بلغتا
أشدهما خرجتا إلى مجرى الدم حيث تسبحان مع الملايين من مثيلاتهما من الخلايا.
التَفَتتْ الخلية البيضاء إلى جارتها الحمراء قائلةً: إليك عني أيتها الكُريَّة الحمراء .. فلونك فاقع يسوء الناظرين ويؤذي الحاضرين .. محدَّبةُ الحدِّ قصيرة القدِّ .. فأنت بلا نواة تتوسطُك أو كروموسومات تُمثلُك .. فلستِ خلية مثل الخلايا خبيثة النفس والنَّوايا .. عمرك معدود وعددك محدود .. ما أكثر ما ينشَأ فيك من الأمراض وما يكابد صاحبها من الأعراض وما يحتاجه لذلك من أغراض .. فتارةً يُنْقل إليه الدم وربما كان محمَّلا بالفيروسات والسُم .. وتارة يحتاج لتناول أقراص الحديد فعانى من الإمساك الضِّيق الشديد .. إن قلَّ عددك فإجهاد القلب بزيادة الأحمال(1) .. وأن زاد عددك فالعبء على الكبد والطحال(2) .. لا يَنفك فقير الدَّم من شحوب أضعفه وسوء تغذية أنحفه .
ردت الكُريَّة الحمراء وقالت : إليك عنيِّ أيتها الخلية البيضاء قالبا السوداء قلبا أَصَبَبْت حقدك علي صبا ؟.. فلماذا العدوان ونحن جيران ؟ !.. آستقويتِ بعشيرتيك وأبناء عمومتك(3) .. آه آه كم سبَّبتِ أنتي من الأمراض المناعيَّة التي استعصت على الوسائل العلاجيَّة .. فهاهو الروماتيزم وآلامه المُبرِّحة والأكزيما وجروحها المتقيِّحة .. وما تلك إلا أمثلةٌ من قليل والمسكوت عنه عظيم جليل .. أولست حاضنة الايدز الفتاك الذي بتشكُّله أعياك (4) ؟ .. فما عرفتِ له طريقا .. فما زال يرتع حرا طليقا .. يهُلك النَّسل والحرث بمكر وخبث .. فما استطعتِ له كَبْتًا ولا تقيدا ولا لشكله معرفةً ولا تحديدا؟.
ردت الخلية البيضاء فقالت : أنا الحصن الحصين والسدُّ العالي المتين .. أحمي الإنسان من أعداءٍ ألدَّاء.. يتربصون به ليلا ونهارا سرا وجهارا .. يبحثون عن منفذ لينفُذوا منه إليه.. فيقضون بجيشهم الجرَّار عليه(5) ..أنا حارسة الثُّغور حامية الدُّور .. ألتهم العدو التهاما أفتِّتُه تشفِّيا وانتقاما .. فاسئلي عن بأسي من شئت من الكائنات الدقيقة تخبرك بعين الحقيقة .. فبأسي قوي شديد أفْدي الإنسان بنفسي كالشَّهيد .
استشاط غضب الكُريَّةُ الحمراء فمدحت نفسها بمدح الشعراء للأمراء فقالت : أنا الكُريَّةُ الحمراء عماد الحياة وركن النجاة حاضنة الغذاء و الأوكسجين أحتضنهما بكل حنين .. كالأمِّ في الحَنان طاهرة الجَنَان(6) كالقُفْل في الأمان صدوقة اللسان .. أطوي نفسي طيَّا(7) لأصِل لكل خلية فأرويها ريَّا.. دائمة التجديد مصاحبة للحديد .. خفيفة المبنى عظيمة المعنى .. لا تستقيم الحياة بدوني أبدا كثيرة عددا .. للمستغيث كنت عونا وسندا…. .
بعد الخصام والجدال وتشمير السواعد للمنازلة والقتال .. أرتضى الخصمان حَكَمًا عدلا ليِّنا سهلا .. فقال لهما معاتبا بأبيات شوقي مخاطبا :
إِلامَ الخُلـفُ بَينَكُـمُ إِلامــا وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلامـا
وَفيمَ يَكيـدُ بَعضُكُـمُ لِبَعـضٍ وَتُبدونَ العَـداوَةَ وَالخِصامـــا
كان الحَكَمُ صفيحة دموية (8) أسْدت إليهما نصائحَ أخوية .. قالت : أنتما بالوفاق أجْدر وبحق الجار أدرى و أخبر .. من خلية واحدة كان المبتدى وإلى مثواكم في الطحال سيكون المنتهى .. تسبحان في فلك عظيم من عروق بديعة التصميم أتعيِّران بعضكما بالداء ساخطين من قضاء رب السماء الذي أنزل مع الداء الدواء وقال على لسان نبيه المعصوم الوارد من الرحيق المختوم تداوو عباد الله فلكل داء دواء(9) .. فتعاليا إلى كَلمة سواء وانبذا التحاسد والشحناء كونا كالبنيان المرصوص وإياكما والنُّكوص .. لا تشتغلا بالتفاضل عن التكامل(10) .. فلكل منكما وجهةٌ هو موليها ووظيفة هو مُؤدِّيها .. لا تتنازعا فتفشلا.. واصبرا وتعقَّلا .. إذا اشتغلتما بالجدال والنِّزال تأهَّب عدوكما للغزو والقتال .. لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا واختصموا وما ائتلفوا…….. .
دكَّتِ الصُفيْحة جبال الخلاف دكَّا واصطف الجميع صفّا صفا ..رافعين الأكُّف بالدعاء مبتهلين لرب السماء .. ربنا طهر قلوبنا من الغل والأحقاد ولا تخُزنا يوم التناد(11) وانصرنا على الأعداء الفُسَّاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفَسَاد.. ربنا أّحْيِينا حياةً طيبة وأهدنا لما اخْتُلِفَ فيه من الحق .
انتهى
(1)عند وجود فقر الدم ( الأنيميا )يعوض الجسم قلة الاوكسيجن المتوجه للخلايا بزيادة عدد نبضات القلب.
(2)الزيادة(المرضية )في كريات الدم البيضاء أو الحمراء يتخلص الجسم منها عبر الطحال’’وتكسير الكريات الحمراء (المرضي)يزيد العبئ على الكبد للتخلص من اليحمور (الهيموجلبين ).
(3)توجد في الدم عدة أنواع من كريات الدم البيضاء.
(4)فيروس( الأتش آي في) معروف بتغير شكله عن طريق انزيمات معيبنة تغير تركيبته الوراثية لا يستطيع الجهاز المناعي في الغالب تداركها .
(5) المقصود هو الجراثيم والبكتيريا والمعروفة بالكائنات المجهرية الدقيقة .
(6)الجنان هو القلب.
(7)نتغط الكرية الحمراء بسبب شكها المقعر لتدخل في الشعيرات الدموية المتناهية الصغر (فسبحان الخالق).
(8)من الصفائح الدموية المهمة في تجلط الدم .
(9) أخرجه الإمام أحمد وصححه الترمذي.
(10)استعارة المعنى اللغوي للكلمة ( الرياضيات في الثالث ثانوي).
(11)التناد يوم القيامة
رقي الأسلوب، سلاسة الطرح وجذب التعبير يجعلني بكل شغف أنتطلع لقراءة رؤية لك. بوركت وسلمت يمناك.
ردحذفقرأته من قبل وهي تنتمي لما يسمى المقامات وهو فن أدبي سجعي راقي ولقد ابدعت فيه واجدت
ردحذفقلمك جميل ويستحق المتابعه
إرسال تعليق